بالطبع، لا يمكن للمال أن يغنينا عن السعادة العميقة والمعنى الذي نجده في علاقاتنا وتجاربنا.
لكن لا شك أن الأمان المالي شعور رائع.
“يمكن أن يجلب المال السعادة أو الشعور بالرضا الذي قد يشبه السعادة لأنه يسمح بالأمان ويقلل من القلق والخوف المالي المستمر“، كما توضح سارة ويتمير Sarah Whitmire، مستشارة مهنية مرخصة ومؤسسة ويتمير للاستشارات والإشراف.
نظرة إلى الأمام
يشير العديد من خبراء الصحة النفسية إلى أن المال وحده لا يضمن السعادة فعوامل أخرى، كالعلاقات، والهدف، والنمو الشخصي، لها تأثير أقوى.
لكن للمال تأثيرٌ ما على السعادة ولكن ما هو مقداره؟ تابع القراءة لمعرفة المزيد عن هذه العلاقة، وما إذا كان امتلاك بضعة دولارات إضافية في محفظتك يُضفي حقًا على قلبك سعادةً، أم أن مفتاح السعادة شيءٌ لا يُشترى بالمال.
لماذا نعتقد أن المال قد يشتري السعادة؟
عندما تفكر في السعادة، غالبًا ما تتبادر إلى ذهنك أشياء مثل الأصدقاء والعائلة ومتع الحياة البسيطة – وليس المال. إذًا، من أين جاءت فكرة أن المال يشتري السعادة ؟
وفقًا للدكتورة كانشي ويجيسيكيرا Kanchi Wijesekera، وهي أخصائية نفسية سريرية مرخصة ومديرة سريرية لمركز Milika Center for Therapy & Resilience، فإن جذور هذه الفكرة متعددة الأوجه.
وتشير إلى أن الفقر بحد ذاته يرتبط بزيادة التوتر وزيادة خطر الإصابة بمشاكل الصحة النفسية .
تقول:
“هناك بعض المحاذير، ولكن قد يكون الشعور بالسعادة أصعب عندما تعيش تحت وطأة الفقر المزمن وكل ما يترتب عليه فقد لا يتوفر لك الوقت والطاقة اللازمان للاستثمار في رفاهيتك كما لو كنت ميسور الحال“.
وتؤكد أن هذا لا يعني أن ذوي الدخل المحدود ليسوا سعداء أو لا يستطيعون أن يكونوا سعداء ولكن قد يكون الشعور بالسعادة أصعب مقارنةً بشخص ثري.
تشير كريستين أندرسون ، وهي معالجة نفسية مرخصة ومؤسسة Madison Square Psychotherapy ، إلى أن فكرة أن المال يمكن أن يشتري السعادة غالبًا ما تكون راسخة بعمق في العديد من المجتمعات.
تقول:
“غالبًا ما تُساوي هذه المجتمعات بين النجاح المالي والحياة الرغيدة، وقد يكون من السهل الانجراف وراء هذه الفكرة. إنها فكرة أن الموارد المالية تُوفر الأمان والراحة والفرص، وهي جميعها مرتبطة بالسعادة“.
ورغم أن المال يسمح للناس بالتأكيد بشراء الضروريات التي يمكن أن تحسن نوعية حياتهم، مثل الرعاية الصحية والتعليم، فإن أندرسون تقول إن هذه لا يضمن سعادة أكبر.
إن المال قد يحسن ظروف معيشتنا، لكنه لا يضمن السعادة الحقيقية، والتي غالباً ما تأتي من الرضا الشخصي، والعلاقات، والرفاهية العاطفية.
يوضح ويتمير أن ثقافة الاستهلاك الحديثة لها دور في غرس هذه الفكرة.
فبالترويج لفكرة أن شراء السلع والخدمات يزيد من سعادتنا، نميل إلى الاعتقاد بأن امتلاك المزيد من المساوين يعني تحقيق المزيد من الرضا.
حيث أن ميولنا الفطرية تُغذّي هذه المعتقدات و حتى عندما نكون مرتاحين، قد نعتقد أننا سنكون أكثر سعادة لو حصلنا على القليل ، سواءً كان سيارة جديدة، أو وظيفة أفضل، أو منزلًا أكبر.
العلاقة بين المال والسعادة
لا يمكن للمال وحده أن يجلب السعادة ، لكن الباحثين وجدوا أدلة تدعم العلاقة بين الأمن المالي وزيادة السعادة والرفاهية.
وفقًا لدراسة أُجريت عام ٢٠١٠، يُساعد ارتفاع الدخل بالفعل على زيادة الرضا الشخصي عن الحياة، إذ يُمكن للمال أن يُخفف الألم العاطفي المُصاحب لأحداث الحياة الصعبة كالطلاق وسوء الصحة.
وتدعم أبحاث أخرى الصلة بين الأمن المالي والسعادة.
في الواقع، تُظهر الدراسات أن الأمن المالي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالسعادة في المجتمعات التي يشيع فيها عدم الاستقرار المالي.
وقد أضافت دراسة حديثة أجريت عام 2023 مستوى آخر إلى هذا النقاش القديم من خلال الإشارة إلى أن مستويات الدخل المرتفعة مرتبطة بزيادة السعادة .
وجدت الدراسة أن زيادة السعادة لا تتوقف عند مستوى معين من الدخل، بل تستمر هذه الفوائد في النمو، وإن كان ذلك بوتيرة أبطأ .
مع ذلك، يُشير الباحثون إلى أن المال ليس العامل الوحيد المُساهم في السعادة ولكن لا شك أن للمال دورًا كبيرًا في خلق الأمان، والوصول إلى الموارد، وفرص النمو، وكلها عوامل تُؤثر على رفاهيتك العامة.
حدود المال في تحقيق السعادة
من المغري الاعتقاد بأن كسب راتب أكبر هو سرّ حياة مُرضية ولكن حاول ألا تُعلق سعادتك بحسابك المصرفي.
صحيح أن امتلاك المزيد من المال قد يُساعد على زيادة السعادة، ولكنه قد يُقلّل من عوائدك أيضًا إذا كان السعي وراء المال الإضافي يُؤثر على جودة حياتك.
تشير الدراسات إلى أنه بعد تجاوز حد دخل معين – غالبًا ما يتراوح بين 75,000 و100,000 دولار أمريكي سنويًا – تبدأ مكاسب السعادة الناتجة عن الدخل الإضافي في الاستقرار.
يمكن لزيادة الراتب أن تُحدث فرقًا كبيرًا إذا كنت تعاني من صعوبات في تلبية احتياجاتك الأساسية و لكنك لن تلاحظ الدخل الإضافي إذا كنت مرتاحًا أو في وضع جيد.
نحب أن نعتقد أن المال يحل جميع مشاكلنا، لكن السعي وراء المكافآت المالية قد يكون ضرره أكبر من نفعه، خاصةً إذا كلّفنا علاقات صحية وروابط اجتماعية.
صحيح أن امتلاك مال إضافي أمر رائع، لكن إذا كان يعني التضحية بعلاقات قيّمة مع الآخرين، فهل تستحق هذه الفوائد كل هذا العناء؟
تزدهر صحتنا النفسية وسلامتنا بالعلاقات القوية والتفاعلات الاجتماعية.
فما فائدة المكافآت المالية إذا كانت تطغى على علاقاتنا وتجاربنا؟
أعلم أن المال يحل الكثير من المشاكل، لكنه لا يشتري الشعور بالهدف والمعنى.
فكّر في الأمر هكذا: إذا كانت وظيفتك مُجزية ماليًا لكنها مُرهقة عاطفيًا، فالإرهاق النفسي أمر لا مفر منه.
لن تُقدّر كل عملك الشاق وتجني ثماره المالية إذا كنت مُنهكًا عاطفيًا ونفسيًا.
ولا يُمكن لأي مبلغ من المال أن يُخفف من إرهاق عقلك أو جسدك.
دور المال في مختلف جوانب الحياة
غالبًا ما ترتبط القدرة على تحمل تكاليف ما نريده ونحتاجه بمستوى حياة أفضل حيث أن الشعور بالأمان المالي يُخفف من القلق، إذ يقلّ قلقك بشأن كيفية تغطية نفقات الحياة المتوقعة وغير المتوقعة.
تقول الدكتورة ويجيسيكيرا: “نحن نعلم أن الاستقرار المالي يوفر أيضًا إمكانية أفضل للوصول إلى الرعاية الصحية والأنشطة الترفيهية وفرص النمو الشخصي، وكل ذلك يساهم في تحسين الصحة العقلية والعاطفية“.
وتضيف أن الضغوط المالية قد تدفعك إلى حالة من الصراع أو الهروب .
فالحصول على المزيد من المال والموارد ينقلك من حالة النجاة إلى حالة من التركيز على الهوايات أو الأصدقاء أو ما يسعدك.
إن عدم القلق بشأن المال يُتيح للمرء التفكير في صحته النفسيةويكون لديه الوقت والفرصة للتفكير في مشاعره وأحواله و ليس لديه عقلية البقاء، ويمكنه قضاء الوقت في التفكير في مساعيه وكيف يمكنه النجاح.
بعبارة أخرى، عدم الاضطرار إلى القلق بشأن المال هو ما يساهم في تحقيق السعادة بشكل أكبر.
تقول أندرسون: “تخيل الفرق بين الشعور الدائم بالتوتر المالي وبين راحة البال عند معرفة أن احتياجاتك مُلباة, صحيح أن المال بحد ذاته ليس مصدرًا مباشرًا للسعادة، إلا أن الأمان الذي يوفره يمكن أن يُهيئ بيئة أكثر استقرارًا لازدهار الصحة النفسية”.
خلاصة
مع أهمية إدراك العلاقة بين المال والسعادة، إلا أنها ليست حلاً سحريًا , فالسعادة الحقيقية تنبع من أمور غالبًا ما تكون غير ملموسة، لا يضمنها المال، مثل العلاقات السعيدة، والشعور بالهدف، والشعور بالانتماء إلى مجتمع.
استراتيجيات لإيجاد السعادة بعيدًا عن المال
ليس هناك شك في أن الأمن المالي يمكن أن يوفر الراحة ويخفف التوتر، ولكن من الصحيح أيضًا أن الأشياء التي تجلب لنا السعادة غير مادية.
بعض الطرق المدعومة بالأبحاث لجلب المزيد من السعادة إلى حياتك (والتي، لحسن الحظ، لا تكلف المال):
تنمية العلاقات الإيجابية
أظهرت الأبحاث باستمرار أن العلاقات القوية والداعمة ضرورية للصحة النفسية والرضا عن الحياة.
وقد وجدت دراسة أجريت عام ٢٠٢٣، على وجه الخصوص، علاقة إيجابية مهمة بين الدعم الاجتماعي وزيادة السعادة .
ركّز على بناء علاقات أقوى مع عائلتك وأصدقائك ومجتمعك لكسب دعم عاطفي أكبر وشعور بالانتماء . تقول ويتماير : “إن المشاركة في تفاعلات هادفة وأنشطة مشتركة مع أحبائك يمكن أن تخلق ذكريات لا تُنسى وتقوي الروابط، مما يؤدي إلى شعور بالرضا والسعادة لا تُضاهيه الممتلكات المادية في كثير من الأحيان“.
يقترح الدكتورة ويجيسيكيرا بناء شبكة اجتماعية داعمة من خلال المشاركة في فعاليات مجتمعية مجانية، أو الانضمام إلى مجموعات الدعم، أو التطوع.
ابحث عن المعنى والغرض
إن السعي وراء الشعور بالهدف والمعنى في حياتك يمكن أن يلعب أيضًا دورًا محوريًا في سعادتك ورضا الحياة.
من المثير للاهتمام أن بعض الأبحاث تشير إلى أن الشعور بالهدف قد يكون مرتبطًا بالنجاح المالي أيضًا.
في إحدى الدراسات، كسب الأشخاص الذين شعروا بالهدف في عملهم أموالًا أكثر من أولئك الذين شعروا أن عملهم يفتقر إلى المعنى. (وبالطبع، قد يساعد كسب المزيد من المال أيضًا في جعل عملك أكثر أهمية).
بعض التجارب، كالهوايات والعمل التطوعي والأنشطة الممتعة، قد تساعدك على إيجاد هدف في حياتك.
استكشاف هوايات غير مكلفة أو مجانية، كالرسم وقراءة الكتب وطهي وصفات جديدة والانفتاح على التجارب الجديدة يمنحك شعورًا عميقًا بالرضا والمعنى، مما يساعدك في النهاية على الشعور بسعادة أكبر.
ممارسة الامتنان
يمكن أن يكون الامتنان ترياقًا قويًا لمشاعر الحزن والسلبية و ذلك لأن التأمل المنتظم في الأشياء التي تحبها وتُقدّرها يُساعد على تحويل تركيزك بعيدًا عن ما قد ينقصك.
وقد وجدت الأبحاث أن تدخلات الامتنان، مثل تدوين يوميات الامتنان، تُحسّن المزاج الإيجابي، والسعادة الذاتية، والرضا عن الحياة.
“إن تخصيص وقت يومي لتقدير الأشياء الجيدة في حياتك، كبيرة كانت أم صغيرة، يمكن أن يُحوّل تركيزك من ما ينقصك إلى ما تملكه“.
“بإدراك الجوانب الإيجابية في حياتك، يمكنك تحسين مزاجك وصحتك العامة بشكل ملحوظ“.
نصيحة من طبيب نفسي سريري
إن ممارسة العادات مثل الاحتفاظ بمذكرات الامتنان، والتأكيدات اللفظية، وتقديم الشكر، أو التفكير في النعم اليومية يمكن أن تقلل من التوتر وترفع من مستوى الرفاهية بشكل عميق.
ممارسة اليقظة الذهنية واستراتيجيات العناية الذاتية الأخرى
تُعدّ اليقظة الذهنية (Mindfulness) وممارسات العناية الذاتية الأخرى أدوات فعّالة لتعزيز الصحة النفسية.
تُركّز اليقظة الذهنية على الانغماس التام في اللحظة الحالية دون قلق بشأن الماضي أو المستقبل.
وجدت إحدى الدراسات أن اليقظة الذهنية مرتبطة بنتائج إيجابية مختلفة بما في ذلك مستويات أعلى من السعادة وانخفاض القلق والاكتئاب.
كما أن أنشطة الرعاية الذاتية الأخرى مثل التأمل وممارسة الرياضة والنوم الكافي هي أيضًا طرق منخفضة التكلفة أو مجانية لتعزيز السعادة.
قضاء الوقت في الطبيعة
يساعد قضاء وقت في الهواء الطلق في أحضان الطبيعة للمساعدة في تخفيف بعض الآثار الفسيولوجية للتوتر.
وجد هذا التقرير أن قضاء 20 دقيقة فقط من المشي في الهواء الطلق يمكن أن يخفض معدل ضربات القلب، وضغط الدم، ومستويات الكورتيزول – cortisol (هرمون التوتر).
مساعدة الآخرين
التطوع وإيجاد طرق لمساعدة الآخرين.
“إن التطوع بوقتك أو القيام بعمل خيري للآخرين يمكن أن يكون مجزيًا للغاية. فهو يعزز شعورك بالانتماء للمجتمع وهدفك، ورؤية الأثر الإيجابي الذي تُحدثه في الآخرين يمكن أن يكون مصدر سعادة كبير”.
خلاصة
رغم أن الأدلة تشير إلى أن المال يزيد من السعادة، إلا أنه ليس الشيء الوحيد الذي يجلب الفرح.
فهناك العديد من الأمور التي تُشعرك بالرضا دون أن تُعزز وضعك المالي.
تقوية العلاقات، والسعي لتحقيق أهداف هادفة، والاهتمام بنفسك، كلها استراتيجيات فعّالة لتحسين سعادتك ورفاهيتك حيث ان التركيز على هذه الجوانب يساعدك على بناء حياة أكثر إشباعًا، بغض النظر عن وضعك المالي
إن إجابة سؤال هل المال يشتري السعادة معقدة. تُظهر الأبحاث أن المال يخفف التوتر ويعزز الرضا عن الحياة.
لكن هذه الفوائد تبدأ بالتلاشي بعد نقطة معينة حيث يوفر مستوى الدخل المرتفع الأمان المالي وإمكانية الوصول إلى الموارد والفرص، لكنه لا يضمن السعادة الدائمة.
السعادة لا تقتصر على رصيدك البنكي. إيجاد السعادة عملية مستمرة تتضمن جوانب متعددة. ومع أنه لا بأس بالسعي نحو الرفاهية المالية، حاول أن تجد توازنًا بين مساعيك المالية وعلاقاتك وتجاربك و هذا،هو أفضل سبيل لتحقيق سعادة دائمة.