
“تجربة العالم المزدحم – جنة الفئران” (Universe 25)
حين يتحول الازدهار إلى دمار
مقدمة
ماذا يحدث عندما نوفر كل مقومات الحياة للكائنات الحية من غذاء وماء ومأوى؟ هل تعيش في سعادة واستقرار؟ أم تظهر أنماط سلوك غريبة تؤدي إلى الانهيار؟
في سبعينيات القرن الماضي، أجرى عالم السلوك الأمريكي جون ب. كالهون (John B. Calhoun) واحدة من أغرب وأشهر التجارب النفسية والاجتماعية على الإطلاق، عُرفت باسم تجربة “Universe 25”، أو “جنة الفئران”.
كانت هذه التجربة تهدف إلى دراسة آثار الاكتظاظ السكاني على السلوك، ولكنها انتهت بنتائج مرعبة:
انهيار المجتمع بالكامل، رغم توافر كل الموارد المادية.
خلفية التجربة
جون كالهون كان مهتمًا بفهم كيف يتفاعل الأفراد داخل المجتمعات المكتظة، خاصةً في ظل تزايد التحضّر ونمو المدن السريع.
في تجاربه السابقة على الفئران، لاحظ أن الاكتظاظ أدى إلى سلوكيات غير طبيعية مثل العنف، اللامبالاة، والعزلة.
لكن في تجربة “Universe 25″، أراد أن يخلق ما يشبه “اليوتوبيا” – بيئة مثالية للفئران بدون نقص في الغذاء أو الماء أو المأوى، ثم يراقب ما يحدث على مدى طويل.
تفاصيل التجربة
أُجريت التجربة عام 1972 في مختبر بـ “المعهد الوطني للصحة العقلية” في الولايات المتحدة.
تم بناء صندوق ضخم يتسع لحوالي 3000 فأر، واحتوى على:
-
أربعة طوابق.
-
ممرات تربط بين “شقق” صغيرة.
-
طعام وماء لا ينفدان.
-
درجة حرارة مثالية.
-
خلو تام من المفترسين أو التهديدات.
بدأ كالهون بـ 8 فئران (4 ذكور و4 إناث)، وأطلق عليهم مجتمع “Universe 25“.
مراحل التجربة
قسم كالهون تطور المجتمع إلى أربع مراحل:
1. المرحلة الأولى: الانطلاق (Days 0–104)
الفئران بدأت تتأقلم مع البيئة حيث لم يكن هناك توتر أو عنف كما كانت المجموعات الصغيرة تتشكل، وتتكاثر ببطء.
2. المرحلة الثانية: النمو السريع (Days 104–315)
بدأ عدد السكان يزداد بسرعة, وُلدت أجيال جديدة، وبحلول اليوم 315، وصل العدد إلى أكثر من 600 فأر.
البيئة لا تزال مثالية، لكن بدأت تظهر علامات اضطراب اجتماعي:
-
بعض الذكور أصبحوا عدوانيين بشدة.
-
ظهرت فئران “مُنزوِية” لا تشارك في المجتمع.
-
أمهات هجرت صغارها أو أهملتهم.
3. المرحلة الثالثة: الركود (Days 315–560)
على الرغم من أن الموارد لم تنفد، بدأت معدلات الولادة في الانخفاض بشكل ملحوظ.
بدأ السلوك الغريب يتفشى:
-
الذكور القوية بدأت تحتكر المناطق وتهاجم الآخرين دون سبب.
-
الذكور الأضعف انسحبوا تمامًا وأصبحوا غير اجتماعيين.
-
بعض الفئران طورت سلوكيات “نرجسية”، مثل التنظيف الزائد، وعدم التفاعل مع الآخرين، وسُميت من قِبل كالهون “الفئران الجميلة” (Beautiful Ones) لأنها كانت تهتم فقط بمظهرها.
4. المرحلة الرابعة: الانهيار والموت (بعد اليوم 560)
معدلات الولادة توقفت تقريبًا، وانتشرت أمراض عقلية وسلوكية بين الفئران:
-
الأمومة اختفت تقريبًا.
-
العنف أصبح عشوائيًا.
-
الفئران توقفت عن التفاعل أو الدفاع عن النفس.
-
انخفض متوسط العمر.
ورغم وفرة الغذاء والماء، انقرض المجتمع تمامًا في النهاية.
النتائج والاستنتاجات
جاءت نتائج التجربة كالتالي:
-
الانهيار الاجتماعي يمكن أن يحدث حتى في ظل الرفاهية المادية.
-
السلوكيات غير الطبيعية لم تكن نتيجة نقص، بل نتيجة فقدان المعنى والدور في المجتمع.
-
ظهور “فئة النرجسيين” و”العنيفين” نتيجة التغيرات الاجتماعية وليس البيئية.
-
غياب الهدف والهوية الاجتماعية يؤدي إلى العزلة والانهيار العقلي.
قال كالهون في وصف المرحلة الأخيرة:
“في هذا المجتمع، لم يعد هناك أي سلوك ذو مغزى. لا علاقات، لا تزاوج، لا تربية، لا تفاعل – فقط وجود جسدي بلا عقل اجتماعي.“
مغزى التجربة للبشر
رغم أن التجربة أُجريت على الفئران، إلا أن كالهون كان يرى أنها محاكاة رمزية للمجتمعات البشرية، وخاصة المدن الكبرى.
تشابهات مقلقة:
-
الاكتظاظ السكاني في المدن الحديثة.
-
العزلة الاجتماعية رغم التقدم التكنولوجي.
-
تزايد مشاكل الصحة النفسية.
-
اختفاء الأسرة أو دور الأبوين في المجتمعات المادية.
البعض اعتبر التجربة “نبوءة حضارية”، تحذر من أن الترف وحده لا يُنتج السعادة، وأن الهوية الاجتماعية والمعنى الشخصي أهم من الموارد المادية.
نقد التجربة
رغم أهميتها الرمزية، إلا أن هناك بعض الانتقادات:
-
هل تنطبق النتائج على البشر؟ الفئران ليست كالبشر، فهي لا تملك مفاهيم معقدة مثل الدين، الثقافة، الفنون، أو الأخلاق.
-
التحكم المفرط: التجربة كانت “مصطنعة” بشكل كبير، مما قد لا يُعبّر عن الواقع المعقد للحياة البشرية.
-
بعض الباحثين اعتبروا أن نقص التحفيز العقلي والاجتماعي في التجربة كان سببًا رئيسيًا في الانهيار، وليس الاكتظاظ وحده.
ومع ذلك، فإن الرسالة الأخلاقية للتجربة لا تزال قوية حتى اليوم.
تأثيرها في الثقافة
ألهمت تجربة “Universe 25” العديد من الأعمال الثقافية، مثل:
-
أفلام “The Matrix” و”Fight Club”.
-
مقالات وتحليلات في علم النفس الاجتماعي.
-
نماذج في علم السكان وتحليل السلوك الحضري.
كما أصبحت مثالًا شهيرًا يُدرّس في علم النفس والسلوك الحيواني.
الخاتمة
تُظهر تجربة “جنة الفئران” أننا – كبشر – لا نحتاج فقط إلى الطعام والماء للبقاء، بل نحتاج أيضًا إلى:
-
روابط اجتماعية صحية.
-
دور ومعنى في الحياة.
-
توازن بين الفردانية والجماعة.
تجربة كالهون تذكرنا بأن الترف بدون قيم أو هوية اجتماعية يمكن أن يؤدي إلى انحلال الحضارات، تمامًا كما حدث مع الفئران.
المراجع
-
Calhoun, J. B. (1973). Death Squared: The Explosive Growth and Demise of a Mouse Population. Proceedings of the Royal Society of Medicine, 66(1), 80–88.
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC1644264/ -
Ramsden, E. & Adams, J. (2009). Escaping the laboratory: the rodent experiments of John B. Calhoun & their cultural influence. Journal of Social History, 42(3), 761–792.
-
BBC Future – What can we learn from the ‘Mouse Utopia’ experiment?
https://www.bbc.com/future/article/20150514-mouse-utopia-experiment
تجربة ألبرت الصغير من اسوء التجارب فالتاريخ